فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ} أي صدّقتم.
{بالله فَعَلَيْهِ توكلوا} أي اعتمدوا.
{إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} كرر الشرط تأكيدًا، وبيّن أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى الله.
{فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} أي أسلمنا أُمورنا إليه، ورضينا بقضائه وقدره، وانتهينا إلى أمره.
{رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تنصرهم علينا، فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو لا تمتحنّا بأن تعذّبنا على أيديهم.
وقال مجاهد: المعنى لا تهلكنا بأيدي أعدائنا، ولا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول أعداؤنا لو كانوا على حق لم نسلَّط عليهم؛ فيُفتنوا.
وقال أبو مِجْلَز وأبو الضُّحا: يعني لا تظهرهم علينا فيروْا أنهم خير منا فيزدادوا طغيانًا.
قوله تعالى: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ} أي خلّصنا.
{مِنَ القوم الكافرين} أي من فرعون وقومه، لأنهم كانوا يأخذونهم بالأعمال الشاقة. اهـ.

.قال الخازن:

{وقال موسى} يعني لقومه: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا} يعني.
فيه فثقوا ولأمره فسلموا فإنه ناصر أوليائه ومهلك أعدائه: {إن كنتم مسلمين} يعني إن كنتم مستسلمين لأمره قيل إنما أعيد قوله إن كنتم مسلمين بعد قوله إن كنتم آمنتم بالله لإرادة إن كنتم موصوفين بالإيمان القلبي وبالإسلام الظاهري ودلت الآية على أن التوكل على الله والتفويض لأمره من كمال الإيمان وأن من كان يؤمن بالله فلا يتوكل إلا على الله لا على غيره: {فقالوا} يعني قال قوم موسى مجيبين له: {على الله توكلنا} يعني عليه اعتمدنا لا على غيره ثم دعوا ربهم فقالوا: {ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين} يعني لا تظهرهم علينا ولا تهلكنا بذنوبهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغيانًا وكفرًا وقال مجاهد: لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون لو كانوا على حق لما عذبوا ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا بذلك وقيل معناه لا تسلطهم علينا فيفتنونا: {ونجنا برحمتك من القوم الكافرين} يعني وخلصنا برحمتك من أيدي قوم فرعون الكافرين لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَ مُوسَى} لما رأى تخوّفَ المؤمنين منه: {ياقوم إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ} أي صدقتم به وبآياته: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} وبه ثقِوا ولا تخافوا أحدًا غيرَه فإنه كافيكم كلَّ شرَ وضُرّ: {إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} مستسلمين لقضاءِ الله تعالى مخلِصين له، وليس هذا من تعليق الحُكمِ بشرطين فإن المعلَّقَ بالإيمان وجوبُ التوكلِ عليه تعالى فإنه المقتضي له، والمشروط بالإسلام وجودُه فإنه لا يتحقق مع التخليد، ونظيرُه: إنْ أحسنَ إليك زيدٌ فأحسنْ إليه إن قدَرتَ عليه: {فَقَالُواْ} مجيبين له عليه السلام من غير تعلثم في ذلك: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لأنهم كانوا مؤمنين مخلِصين ثم دعَوا ربَّهم قائلين: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} أي موقعَ فتنةٍ: {لّلْقَوْمِ الظالمين} أي لا تسلِّطْهم علينا حتى يعذّبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يُفتَتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لَما أصيبوا وقوله تعالى: {وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} دعاءٌ منهم بالإنجاء من سوء جوارِهم وشؤمِ مصاحبتِهم بعد الإنجاءِ من ظلمهم، عبّر عنهم بالكفر بعدما وُصفوا بالظلم، وفي ترتيب الدعاءِ على التوكل تلويحٌ بأن الداعَي حقُّه أن يبنيَ دعاءَه على التوكل على الله تعالى. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَقَالَ مُوسَى} لما رأى تخوف المؤمنين: {يا قوم إِن كُنتُمْ ءامَنْتُمْ بالله} أي صدقتم به وبآياته: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} أي اعتمدوا لا على أحد سواه فإنه سبحانه كافيكم كل شر وضر.
{إِن كُنْتُم مُّسْلِمِينَ} أي مستسلمين لقضاء الله تعالى مخلصين له، وليس هذا من تعليق الحكم بشرطين بل من تعليق شيئين بشرطين لأنه علق وجوب التوكل المفهوم من الأمر وتقديم المتعلق بالإيمان فإنه المقتضى له وعلق نفس التوكل ووجوده بالإسلام والإخلاص لأنه لا يتحقق مع التخليط، ونظير ذلك إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت عليه فإن وجوب الإجابة معلق بالدعوة ونفس الدعوة معلقة بالقدرة، وحاصله إن كنتم آمنتم بالله فيجب عليكم التوكل عليه سبحانه فافعلوه واتصفوا به إن كنتم مستسلمين له تعالى.
وهذا النوع على ما في الكشف يفيد مبالغة في ترتب الجزاء على الشرط على نحو إن دخلت الدار فأنت طالق إن كنت زوجتي وجعله بعضهم من باب التعليق بشرطين المقتضى لتقدم الشرط الثاني على الأول في الوجود حتى لو قال: إن كلمت زيدًا فأنت طالق إن دخلت الدار لم تطلق ما لم تدخل قبل الكلام لأن الشرط الثاني شرط للأول فيلزم تقدمه عليه، وقرره بأن هاهنا ثلاثة أشياء: الإيمان والتوكل والإسلام، والمراد بالإيمان التصديق وبالتوكل إسناد الأمور إليه عز وجل، وبالإسلام تسليم النفس إليه سبحانه وقطع الأسباب فعلق التوكل بالتصديق بعد تعليقه بالإسلام لأن الجزاء معلق بالشرط الأول وتفسير للجزاء الثاني كأنه قيل: إن كنتم مصدقين بالله تعالى وآياته فخصوه سبحانه بإسناد جميع الأمور إليه وذلك لا يتحصل إلا بعد أن تكونوا مخلصين لله تبارك وتعالى مستسلمين بأنفسكم له سبحانه ليس للشيطان فيكم نصيب وإلا فاتركوا أمر التوكل. ويعلم منه أن ليس لكل أحد من المؤمنين الخوض في التوكل بل للآحاد منهم وأن مقام التوكل دون مقام التسليم والأكثر على الأول ولعله أدق نظرًا.
{فَقَالُواْ} مجيبين له عليه السلام من غير تلعثم وبلع ريق في ذلك: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لا على غيره سبحانه ويؤخذ من هذا القصر والتعبير بالماضي دون نتوكل أنهم كانوا مؤمنين مخلصين، قيل: ولذا أجيب دعاؤهم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} أي موضع فتنة وعذاب لهم بأن تسلطهم علينا فيعذبونا أو يفتنونا عن ديننا أو يفتنوا بنا ويقولوا: لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.
{وَنَجّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} دعاء بالإنجاء من سوء جوارهم وسوء صنيعهم بعد الإنجاء من ظلمهم، ولذا عبر عنهم بالكفر بعدما وصفوا بالظلم ففيه وضع المظهر موضع المضمر، وجوز أن يراد من القوم الظالمين الملأ الذين تخوفوا منهم ومن القوم الكافرين ما يعمهم وغيرهم، وفي تقديم التوكل على الدعاء وإن كان بيانًا لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى فإنه أرجى للإجابة ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء لأنه أحد الأسباب للمقصود والتوكل قطع الأسباب لأن المراد بذاك قطع النظر عن الأسباب العادية وقصره على مسببها عز وجل واعتقاد أن الأمر مربوط بمشئته سبحانه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وقد صرحوا أن الشخص إذا تعاطى الأسباب معتقدًا ذلك يعد متوكلًا أيضًا، ومثل التوكل في عدم المنافاة للدعاء على ما تشعر به الآية الاستسلام.
نعم في قول بعضهم: إن الاستسلام من صفات إبراهيم عليه السلام وكان من آثاره ترك الدعاء حين ألقى في النار واكتفاؤه عليه السلام بالعلم المشار إليه بقوله: حسبي من سؤالي علمه بحالي ما يشعر بالمنافاة ومن عرف المقامات وأمعن النظر هان عليه أمر الجمع. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَقَالَ مُوسَى} أي: تطمينًا لقلوبهم، وإزالة للخوف عنهم: {يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} أي: فإليه أسندوا أمركم في العصمة مما تخافون، وبه ثقوا فإنه كافيكم: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: من الآية 3]، وقوله: {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} أي: مخلصين وجوهكم له.
قال القاشاني: جعل التوكل من لوازم الإسلام، وهو إسلام الوجه لله تعالى، أي: إن كمل إيمانكم ويقينكم، بحيث أثر في نفوسكم، وجعلها خالصة لله؛ لزم التوكل عليه. وإن أريد (الإسلام) بمعنى الانقياد، كان شرطًا في التوكل، لا ملزومًا له، وحينئذ يكون معناه: إن صح إيمانكم يقينًا فعليه توكلوا، بشرط أن تكونوا منقادين. كما تقول: إن كرهت هذا الشجر فاقلعه إن قدرت- انتهى-.
وقال الكرخي: قوله تعالى: {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} أي: منقادين لأمره، فقوله: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} جواب الشرط الأول، والشرط الثاني وهو: {إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} شرط في الأول، وذلك أن الشرطين متى لم يترتبا في الوجود، فالشرط الثاني شرط في الأول. ولذلك لم يجب تقديمه على الأول. قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدمًا، والمتقدم يجب أن يكون متأخرًا، مثاله: قول الرجل لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدًا، فمجموع قوله: (إن دخلت الدار فأنت طالق) مشروط (إن كلمت زيدًا) والمشروط متأخر عن الشرط، وذلك يقتضي أن يكون المتأخر في اللفظ متأخرًا في المعنى، فكأنه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيدًا إن دخلت الدار فأنت طالق، فلو حصل هذا المعلق قبل إن كلمت زيدًا لم يقع الطلاق. فقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم} إلخ يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطًا لأن يصيروا مخاطبين بقوله: {إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ} فكأنه تعالى يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكل. والأمر كذلك، لأن الإسلام عبارة عن الاستسلام وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد والإيمان عبارة عن معرفة القلب بأن واجب الوجود لذاته واحد، وما سواه محدث تحت تدبيره وقهره. وإذا حصلت هاتان الحالتان فعند ذلك يفوض العبد جميع أموره إليه تعالى، ويحصل في القلب نور التوكل على الله تعالى. انتهى.
{فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: موضع فتنة لهم، أي: عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. قال الحاكم: دلت على حسن السؤال بالنجاة من الظلمة.
{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: من كيدهم، ومن شؤم مشاهدتهم، والعبودية لهم.
قال القاضي: وفي تقديم التوكل على الدعاء تنبيه على أن الداعي ينبغي له أن يتوكل أولًا لتجاب دعوته. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} عطف بقية القصة على أولها فهو عطف على جملة: {وقال فرعون} [يونس: 79]، وهذا خطاب موسى لجميع قومه وهم بنو إسرائيل الذين بمصر، وهو يدل على أنه خاطبهم بذلك بعد أن دعاهم وآمنوا به كما يؤذن به قوله: {إن كنتم آمنتم بالله}.
والغرض منه تثبيت الذين آمنوا به في حضرة فرعون على توكلهم، وأمْرُ مَن عداهم الذين خاف ذريتُهم أن يؤنبوهم على إظهار الإيمان بأن لا يُجبِّنوا أبناءهم، وأن لا يخشوا فرعون، ولذلك قال: {إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا}.
والمعنى: إن كنتم آمنتم بالله حقًا كما أظهرتْه أقوالكم فعليه اعتمدوا في نصركم ودفع الضر عنكم ولا تعتمدوا في ذلك على أنفسكم بمصانعة فرعون ولا على فرعون بإظهار الولاء له.
وأراد إثارة صدق إيمانهم وإلهابَ قلوبهم بجعل إيمانهم معلقًا بالشرط محتمل الوقوع، حيث تخوفوا من فرعون أن يفتنهم فأرادوا أن يكتموا إيمانهم تقية من فرعون وملئهم، وإنما جَعل عدم اكتراثهم ببطش فرعون علامة على إيمانهم لأن الدعوة في أول أمرها لا تتقوم إلا بإظهار متبعيها جماعتَهم، فلا تغتفر فيها التقية حينئذٍ.
وبذلك عمل المسلمون الأولون مثل بلال، وعمار، وأبي بكر، فأعلنوا الإيمان وتحملوا الأذى، وإنما سوغت التقية للآحاد من المؤمنين بعد تقوم جامعة الإيمان فذلك محل قوله تعالى: {من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل: 106].
فتقديم المجرور على متعلقه في قوله: {فعليه توكلوا} لإفادة القصر، وهو قصر إضافي يفسره قوله: {على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} [يونس: 83]، فآل المعنى إلى نهيهم عن مخافة فرعون.
والتوكلُ: تقدم آنفًا في قصة نوح.
وجملة: {إن كنتم مسلمين} شرط ثان مؤكد لشرط: {إن كنتم آمنتم بالله}، فحصل من مجموع الجملتين أن حصول هذا التوكل متوقف على حصول إيمانهم وإسلامهم، لمزيد الاعتناء بالتوكل وأنه ملازم للإيمان والإسلام، ومبين أيضًا للشرط الأول، أي إن كان إيمانكم إيمان مسلم لله، أي مخلص له غير شائب إياه بتردد في قدرة الله ولا في أن وعده حق، فَحصَل من مجموع الشرطين ما يقتضي تعليق كل من الشرطين على الشرط الآخر.
وهذا من مسألة تعليق الشرط على الشرط، والإيمان: تصديق الرسول فيما جاء به وهو عمل قلبي، ولا يعتبر شرعًا إلا مع الإسلام، والإسلامُ: النطق بما يدل على الإيمان ولا يعتبر شرعًا إلا مع الإيمان، فالإيمان انفعال قلبي نفساني، والإسلام عمل جسماني، وهما متلازمان في الاعتداد بهما في اتّباع الدين إذ لا يعلم حصول تصديق القلب إلا بالقول والطاعة، وإذ لا يكون القول حقًا إلا إذا وافق ما في النفس، قال تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تومنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} [الحجرات: 14]. وقد ورد ذلك صريحًا في حديث سؤال جبريل في الصحيحين.